الخميس، 10 فبراير 2011

الشاهد أو الحب.. والثورة (೦)


كان جالسا في مقهى "البيراميد" قرب وزارة الداخلية المحاطة بالأسلاك الشائكة ودبّابات والعديد من الجنود في شارع الحبيب بورقيبة.
وإذابه يسمع صيحاتا وصراخا، خرج رفقة أصدقائه من "الزّنقة"، وإذا بعدد كبير من النّاس يركضون وسط الشارع على غير هدى، كأنه يوم الحساب. وأعوان الأمن يلاحقونهم ويلقون بالقنابل المسيلة للدّموع. حتّى تحوّل اخضرار الأشجار على طول الشارع الرئيسي للعاصمة إلى بياض ينبؤ بنزول أمطار العيون.
ركض مع الرّاكضين، أحسّ باختناق، لا سيما وأنّ له قلبا لعينا ضعيفا كما قال له طبيبه. شعر بالإنهاك فوقف ليستريح أمام نزل "إفريقيا"، وإذا به يرى شابا من القصرين، من المعتصمين في ساحة القصبة أمام الوزارة الأولى.
كان الشاب فوزي بوعزيزي جاثما على ركبتيه يبكي ويطلب من الله أن يحميه ويحمي وطنه أمام كاميرا لصحفي أجنبي.
وفي لمح البصر مرّ شريط الأحداث أمام عينيه، وتوقّف فجأة عند كلام هذا الشاب في ساحة القصبة:
" أنا إسمي فوزي بوعزيزي، عمري أربعة وعشرون سنة، أقطن بحي الزهور بالقصرين وأعمل بالسوق البلدي بنفس الولاية. أريد أن أقول أننا لسنا "بالجبورة" ولا الهمجيين، وأنا أطلب من وسائل الإعلام أن تكون متواجدة طيلة اليوم، لا أن يأتوا للقيام باستجوابات ثم يرحلون. فليأتوا ليصوّروا تجاوزات الحكومة والشرطة السياسية وما يفعلونه لإجهاض الثّورة ببث الفساد من خمر ومخدرات ورشوة لتدعيم الجهويات والتفريق.
وليعلموا جميعا بأننا لسنا بحاجة إلى إعانات، بل لرفع صوتنا والدفاع عن هذه الثورة وعن كرامتنا، لأنّ هذه الثورة ليست ثورة جوع بل ثورة كرامة ومبدأ. نحن لا نريد سوى حكومة برلمانية ذات مصداقية.
أنظر يا شعبنا، يا شعب تونس العزيزة إلى حالتنا، أنظر إلى مرضنا جرّاء الإعتصام، فأين الهلال الأحمر؟ ألم يتحصّل على منحة بخمسين ألف دولار مؤخّرا؟"
دمعت عينايا وأحسست بحرارة تصهد وجهي، واصلت الركض وسط الحشود إلى أن وصلت أمام المسرح البلدي، تعثّرت وواصلت الرّكض محسّا باختناق شديد، وأعوان الأمن يواصلون الرّكض خلف الفّارّين ملقين بالقنابل المسيلة للدموع.
لا أدري كيف دخلت في شوارع وخرجت منها إلى أن وصلت إلى الساعة المنتصبة أسفل شارع الحبيب بورقيبة.
مشيت مترنحا إلى أن وصلت إلى محطّة الميترو "الحيبيب ثامر" واتّجهت إلى المنزل.


*****************

أحسّ بالألم الذي لا يفارقه يزداد شدة وهو يفتح باب المنزل، سارع بالدخول واتجه مباشرة إلى فراشه أين اتّكأ طالبا للرّاحة.
"راحتي لا تكون إلاّ بالموت"، قال في نفسه وهو يتملّى صورتها في هاتفه النّقّال.
اشتدّت آلام صدره وأحسّ باختناق كما كلّ ليلة. نزع ملابسه ولكن شيئا لم يتغيّر.
أشعل سيجارة ليسرّع من وفاته، فلماذا يعيش وقد تركته؟
كانت أمله في الحياة ودافعه الأوّل للتّشبّث بأحلامه. كانت ملاذه في الألم والفرحة، كانت قلبا وروحا ثوريّة وتحوّلت في لحظة إلى مصدر لألمه. كانت دائمة الصياح، ولاطالما أهانته مؤخّرا، اعتقد أنّها ليست سوى تمضهرات للتغير البدني الذي تعيشه.
أغمض عينيه فبدأت الذّكريات تلهو بعقله. تذكّر أوّل ما تذكّر، آخر قبلة، كانت يوم عيد ميلادها. باقة من الورود وقصيدة كانت الهديّة.
جلسوا أربعتهم في مقهى "البيراميد"، أشعلوا الشموع وأطفؤوها معا.
عانقته حيفا بشدّة، قبّلته كما لم تقبّله قبلا رغم احساسها بأوجاع في رأسها ودوّار.
حتّى عندما استقلّوا سيّارة صديقه للمغادرة أرادت أن تتكئ على صدره وتقبّله بين الحين والآخر.
وهو لم يكن يدري أنها آخر مرّة تتلامس فيها الشّفاه

الشاهد أو الحبّ.. والثّورة


تحاملت على نفسي وتناولت كرّاس مذكّراتي من درج المكتب، فتحته فكانت الصّفحة تشير إلى يوميّة 12 ديسمبر 2010. قرأت
:
" أفقت وبي خليط من الحزن والفرح فقد كانت ليلة مضطربة لم أستطع فيها النّوم سوى سويعات قليلة.

فمنذ هاتفتني حيفا وزفّت لي الخبر أو إمكانيّة حدوثه وأنا أفكّر في كيفيّة إصلاحه.

قالت أنّه من الممكن أن تكون حاملا. فرحت في أوّل الأمر فقد جاء هذا الجنين في وقته ليرمّم علاقتنا، ولاسيما وقد شهدت تصدّعات في المدّة الأخيرة. بالإضافة إلى أنّه كان حلما يراودني في يقظتي ومنامي.

اقترحت على حبيبتي أن نحتفظ بالجنين وأن تتزوج. ولكنّها رفضت وأخذت تصرخ ناعتة إياي بالغبي وقالت بأنها لا تريد أن تخسر علاقاتها العائليّة. فحزنت لذلك شديد الحزن.

أفقت من النّوم المتقطّع واتّجهت للعمل، وكالعادة، وأنا أفتح باب مكتبي مرّ بجانبي الهاشمي، ألقى تحيّة الصّباح فلعنت الشّيطان الرّجيم وزدت إيقانا بأنّه (نهار أحرف).

حوالي منتصف النّهار هاتفتني حيفا، طلبت أن تراني، فرحت، فهذه فرصة لمحاولة إقناعها بأن نتزوّج.

جلسنا متقابلين في مقهى (البيراميد)، وكالعادة مددت لها وردة حمراء، ولكنّ أول كلماتها كانت (كرهتك آدم).

تحشرج صوتي وأنا أقول:

- حيفا..ماذا حصل لك؟؟؟

- حقيقة أحس بكره لك، لا أطيقك، ولا أطيق رائحتك.

شممت سترتي فكانت الرّائحة ذاتها التّي طالما عشقتها.

اتفقنا أن نبيت معا في منزل الناصر رفقة صديقتنا غادة، وكانت كلمات حيفا بأن لا أحاول حتّى تقبيلها.

قبل الوصول إلى منزل الناصر توقّفنا عند صيدليّة بأريانة، اقتنينا اختبار حمل وتوجّهنا إلى المنزل. "

**********

أغلقت دفتر يوميّاتي ودمعات تنزلق من عينيّا، وألم يزيد من عنائي ومن انقطاع الهواء عن صدري واختناقي.

تقلّبت في سريري من الوجع فسقطت أرضا، أحسست بدوّار، بدأت أحبو باحثا عن آلة التّنفّس الاصطناعي. وصلتها بالتيار الكهربائي وبقيت ملقى على ظهري أرضا وأنا أمجّ ما تلفظ به من دخان.

أحسست براحة، وسرعان ما عادت لي الذّكريات:

"شاب يدعى محمّد بوعزيزي من ولاية سيدي بوزيد يحرق نفسه بعد أن صفعته عونة التّراتيب البلدية، وبعد أن توجّه إلى والي الجهة فرفض مقابلته".

هكذا قال لي أحمد (أونتيكور) عندما فتحت صفحة (الفايسبوك) الخّاصة بي.

اقترح علي أحمد أن يعيّنني في صفحة (شعب تونس يحرق في روحو يا سيادة الرّئيس) فوافقت مباشرة، وكانت أوّل كلماتي قصيدة:



وإذ قال محمد بوعزيزي



سأحرق نفسي

فالجوع والحاجة تقتلني

وعلى جسدي فلتتدفئوا

سأحرق نفسي

فكلّنا نمل

يبحث عن القوت في أرض جرداء

كلّنا شجر برتقال

جفّت الحياة من أغصانه
كلّنا وقود ثورة
وليستفق النّائمون

وتسارعت بعدها الأحداث، بدأت المظاهرات في سيدي بوزيد، القصرين، تالة ..... وبدأت الدّماء تروي الأرض العطشى...وتنبت الورود.

سقط العديد من الضّحايا على أيدي أعوان الأمن. تفاقم الوضع فتحوّلت المظاهرات إلى العاصمة . بدأت أمام الإتحاد العام التونسي للشغل في بطحاء محمد علي الحامّي. ولكن إتحاد الشغل أصدر بيانا بعد أيّام ينفي فيه مسؤوليّته في هذه المظاهرة.

قرأت هذا البيان وأنا أشارك في مظاهرة الجمعية التونسية للنساء الدّيمقراطيّات .

نزلت من المقرّ فناداني شرطي، أنا والصديق سفيان وطلب أن نتعارف مدّعيا بأنّه لو عرفني فسوف يوصي بي خيرا لزملائه. هههه غبي وحقّ السّماء